الدين في العالم القديم

تعريف

Joshua J. Mark
بواسطة ، تمت ترجمته بواسطة عبد المجيد الشهاوي
نُشر في 23 March 2018
X
Sumerian Worshipper Statue (by Osama Shukir Muhammed Amin, Copyright)
تمثال لمصلي سومري
Osama Shukir Muhammed Amin (Copyright)

الدين (مشتق من الفعل الثلاثي ’دان‘، ومن تصريفاته ’يدين‘، ’دائن‘، ’مدين‘، ’دين‘ بمعنى صنيع عيني أو معنوي يقر به متلقيه لمانحه كأمانة لديه ويُنتظر من الأول أن يوفي الأخير أمانته في أجل معلوم) هو عبارة عن منظومة تراتبية من المعتقدات والممارسات تتمحور حول، أو توصل إلى، تجربة روحانية سامية. وما من ثقافة مدونة عبر التاريخ البشري لم تمارس شكلًا ما من أشكال الدين.

كان الدين في الأزمان القديمة لا ينفك عن ما نسميها اليوم ’الأسطورة‘ ويتألف من طقوس اعتيادية تُؤدى بالنيابة عن كيانات عليا خارقة للطبيعة يُنسب إليها خلق العالم والأكوان المحيطة وحفظها وتدبير أمورها. كانت كيانات مُجَسْمة وتتصرف على نحو يعكس بشكل وثيق القيم السائدة في الثقافة (كما في مصر) أو تنخرط أحيانًا في أفعال منافية لتلك القيم (كما نرى مع آلهة اليونان). سواء في العالم القديم أو الحديث، سنجد الدين يُعنى أساساً بروحانيات البشر والأرباب والربات، وخلق العالم، ومكان الإنسان في العالم، والحياة بعد الموت، والخلود، وسبل الإفلات من العذاب في الحياة الدنيا أو في الآخرة؛ وسنجد أن كل أمة قد ابتدعت ربها الخاص على صورتها الخاصة وسِحْنة تشبهها. عن ذلك كتب الفيلسوف اليوناني كسـِنوفانيس من كولوفون (570-478 ق.م):

يتصور العامة آلهتهم تُولد وترتدي الملابس وتصدر الأصوات وتتجسد في هيئاتهم وسحناتهم. لكن لو كان للثيران والخيول والأسود أيدي أو بمقدورها أن ترسم بأياديها وتصنع أشياء كما يفعل الرجال، لكانت الخيول رسمت صور الآلهة على هيئة الحصان والثيران على هيئة شبيهة بالثور، وكل منهما شكل أجساد الآلهة على شاكلته. لهذا تصور الأثيوبيون آلهتهم سود البشرة بأنف أغطس؛ والتراقيون بعيون زرقاء وشعر أحمر.

اعتقد كسـِنوفانيس في وجود "إله واحد، الأعظم بين الآلهة والرجال، لا مثيل ولا شبيه له من البشر في الهيئة أو العقل" لكنه يزال مُحاط بزمرة من الآلهة. فبمعزل عن رؤى ونبوءات اليهودية، لم يكن التوحيد المطلق يروق بعد لمخيلة القدماء. بل كان معظم الناس، على الأقل إلى حد ما نستطيع قراءته من السجلات المكتوبة والأثرية، يؤمنون بآلهة عديدة، كل منهم له منطقة نفوذ خاصة به. فكل امرئٍ منهم لا يكتفي في حياته الشخصية بشخص آخر واحد فقط لتلبية كل احتياجاته؛ بل سيضطر إلى التفاعل مع العديد من أنواع البشر المختلفين بغية تحقيق الاكتفاء وتدبر العيش.

شعر القدماء أن ما من إله واحد كان بمقدوره أن يعتني بكل احتياجات الفرد.

في حياتنا اليومية المعاصرة، سيضطر كل واحد منا للتفاعل مع والديه ومدرسيه وأصدقائه وأحبائه ورؤسائه في العمل، ومع الأطباء والعمال في محطات التزود بالوقود ومع السباكين والبيطريين والكثيرين غيرهم. فما من شخص واحد يستطيع بمفرده أن يؤدي كل هذه الأدوار أو يلبي كل احتياجات الفرد- تمامًا كما كان الحال في الأزمان القديمة.

بنفس هذه الطريقة، شعر القدماء أن ما من إله واحد كان بمقدوره أن يعتني بكل احتياجات الفرد. وتمامًا مثلما لن يذهب أحد منا إلى السباك بصحبة كلبه المريض، ما كان أحد منهم سيذهب إلى إله الحرب طلباً للعون في مشكلة عاطفية. بل حين يعاني المرء من جرح الفؤاد، كان سيذهب إلى إلهة الحب؛ أما إذا أراد الظفر في ساحة القتال، فما كان عليه سوى أن يستشير إله الحرب.

الآلهة المتعددة في أديان القدماء أدت هذه الوظيفة مثل المتخصصين في مجالات تخصصهم المختلفة. وفي بعض الثقافات، كان أحد الأرباب أو الربات يبلغ حداً من الذيوع والانتشار يتجاوز الفهم الثقافي للتعددية ليجمع من القوة والشمول ما يكاد يحول ثقافة تعديدية تؤمن بآلهة متعددة إلى تكبيرية تُكبر أحد الآلهة دون الآخرين.

West Pediment of the Parthenon (Reconstruction)
القوس الغربي للبارثينون (بعد ترميمه)
Tilemahos Efthimiadis (CC BY-SA)

فبينما تعني التعديدية عبادة آلهة متعددة، تعني التكبيرية عبادة إله واحد لكن في صور متعددة. هذا التحول في الإدراك كان نادرًا للغاية في العالم القديم، وربما يمثل كل من الإلهة إيزيس والإله آمون من مصر القديمة خير مثالين للصعود الكامل لأحد الآلهة من إله ضمن متعددين إلى الخالق الأعظم وحافظ الوجود الذي يتجلى في صور مختلفة.

كما سبقت الإشارة، كانت كل ثقافة قديمة تمارس شكلاً ما من أشكال الدين، لكننا لا نستطيع أن نحدد على وجه اليقين النقطة التي بدأ عندها الدين. ولا يزال الجدل مستمر حول ما إذا كان الدين في بلاد ما بين الرافدين أعطى الإلهام لدين المصريين من دون حسم منذ أكثر من مئة عام حتى اليوم ولا يتوقع أن يُحسم في أي وقت قريب. بل الأكثر ترجيحاً أن كل ثقافة طورت اعتقادها الخاص في كيانات خارقة للطبيعة لتفسير ظواهر طبيعية (الليل والنهار، المواسم) أو للمساعدة في إضفاء معنى على حيواتهم وعلى حالة عدم اليقين التي يجد فيها البشر أنفسهم بصفة يومية.

بينما قد توفر محاولة تتبع أصول الدين تجربة مثيرة للاهتمام فيما يتصل بالتبادل الثقافي، يظل من العبث إضاعة الوقت في هذا المسعى حين يبدو واضحاً للعيان أن الوازع الديني هو ببساطة جزء من الحالة البشرية وأن الثقافات المختلفة عبر أنحاء مختلفة من العالم قد خلصت بطرقها الخاصة وبشكل منفصل إلى الاستنتاجات نفسها حول معنى الحياة.

Queen of the Night or Burney's Relief, Mesopotamia
نقش بارز لملكة الليل (أو بورنيز)، بلاد ما بين الرافدين
Osama Shukir Muhammed Amin (Copyright)

الدين في العرق القديمة

كما مع العديد من مظاهر الرقي والابتكارات الثقافية، ذُكرت ’مهد الحضارة‘ بلاد ما بين الرافدين كمكان النشأة الأولى للدين. لا نعرف بالضبط متى تطور الدين في العراق القديمة، لكن تاريخ أولى السجلات المكتوبة للممارسة الدينية يعود إلى 3500 قبل الميلاد من سومر. وقد قضت المعتقدات الدينية العراقية القديمة بكون البشر عمال مشاركون مع الآلهة وعملوا معهم ومن أجلهم لصد شرور قوى الفوضى التي سبق وقيدتها الأرباب العليا في بداية الزمان. فالآلهة قد خلقت النظام من الفوضى، وهو المبدأ الذي توضحه إحدى أشهر الأساطير حول الإله العظيم مردوخ الذي هزم تيامات وقوى الفوضى لكي يخلق العالم. يكتب المؤرخ د. بريندان ناجل:

رغم انتصار الآلهة الساطع، ما كان هناك من ضامن ألا تستعيد قوى الفوضى قدرتها وتعبث في خلق الآلهة البديع الصنع. كان الآلهة والبشر على حد سواء منغمسون في نضال أبدي لتحجيم قوى الفوضى، ولكل منهم دوره الذي يؤديه في هذه الملحمة السرمدية. وتمثلت المسؤولية على عاتق سكان مدن بلاد ما بين النهرين في إمداد الآلهة بكل ما يحتاجون لكي يسيروا العالم.(11)

كانت الآلهة تكافئ البشر مقابل خدماتهم عبر الاعتناء باحتياجاتهم اليومية في الحياة.

في الحقيقة، لقد خُلق البشر من أجل هذا الغرض بالذات: العمل مع الآلهة ومن أجلهم صوب غاية مفيدة للطرفين. وهنا لا يصمد زعم بعض المؤرخين بكون العراقيين القدماء عبيداً لآلهتهم، لأن من الواضح تماماً أن الناس فهموا موقعهم كعمال مشاركين. كانت الآلهة تكافئ البشر مقابل خدماتهم عبر الاعتناء باحتياجاتهم اليومية في الحياة (مثل إمدادهم بالبيرة، شراب الآلهة) وتدبير العالم الذي عاشوا فيه. فتلك الآلهة تعرف معرفة وثيقة احتياجات الناس لأنها ليست من نوعية الكيانات البعيدة التي عاشت بمعزل في السماوات العلى، بل كانت تسكن بيوتاً حقيقية على الأرض بنتها لها أقوامها؛ ومن تلك البيوت شُيدت المعابد التي تزينت بها كل مدينة عراقية قديمة.

اعتُبرت مجمعات المعابد ذات الزقورة الهرمية المدرجة بيوتاً للآلهة بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث كان الكهنة والكاهنات يتولون إطعام تماثيلها ويشرفون على استحمامها وكسوتها بصفة يومية تماماً كما يفعل الخدم مع ملكهم أو ملكتهم. وفي حالة مردوخ، على سبيل المثال، كان تمثاله يُحمل خارج المعبد أثناء احتفالات تكريمه ويُطاف به عبر شوارع مدينة بابل حتى يرى جمالها الأخاذ ويستنشق نسيمها المنعش ويستدفئ بشمسها المشرقة.

Ishtar
عشتار
Fae (Public Domain)

كانت إنانا ربة متنفذة أخرى قُدِّست إلى حد بعيد كإلهة للحب والجنس والحرب، واعتنى كهنتها وكاهناتها بتمثلها ومعبدها بكل تفاني وإخلاص. إنانا هي واحدة من أقدم الأمثلة لشخصية إله الموت والبعث الذي يحتجب في العالم السفلي ثم يعود إلى الحياة ليجلب الخصوبة والوفرة إلى الأرض. كان لها شعبية هائلة وشاعت عبادتها في جميع أنحاء العراق القديمة انطلاقاً من منطقة سومر في الجنوب. ثم تحولت فيما بعد إلى عشتار لدى الأكاديين (ثم الآشوريين)، وعشتروت لدى الفينيقيين، وسوسكا لدى الحيثيين-الحوريين، وارتبطت بأفروديت لدى اليونانيين، وإيزيس لدى المصريين، وفينوس لدى الرومانيين.

كانت المعابد مركز حياة المدينة طوال التاريخ العراقي القديم منذ الامبراطورية الأكادية (حوالي 2334-2150 قبل الميلاد) حتى الآشورية (حوالي 1813-612 قبل الميلاد) فصاعداً. وقد خدم المعبد وظائف متعددة: كان رجال الدين يصرفون فوائض الحبوب والبضائع على الفقراء، ويفتون السائلين، ويقدمون الخدمات الطبية، ويرعون الاحتفالات الكبرى تكريماً للآلهة. ورغم اهتمام الآلهة البالغ بالبشر أثناء حياتهم الدنيا، كانت الحياة الآخرة في العراق القديمة عالماً سفلياً مخيفاً، يقع بين جبلين بعيدين، حيث كانت الأرواح تشرب الماء العفن من البرك وتأكل الوحل من أجل الخلود في ’أرض اللاعودة‘. ويلاحظ أن هذه النظرة الكئيبة لدارهم الآخرة كانت مختلفة بشكل ملحوظ عن نظرة المصريين وجيرانهم الفرس لدارهم الآخرة.

الدين الفارسي القديم

بلغت بشائر الدين الفارسي الهضبة الإيرانية مع هجرات الآريين (الهندو-إيرانيون) في زمن ما يسبق الألفية الثالثة قبل الميلاد. كانت العقيدة الأولى تعديدية بإله أعظم، أهورا مازدا، مؤله فوق آخرين دونه، أشهرهم عتار (إله النار)، ميثرا (إله الشمس المشرقة والمواثيق)، حفار خشستا (إله الشمس الساطعة)، وأناهيتا (إلهة الخصوبة والماء والصحة والشفاء والحكمة). وقد رمزت تلك الآلهة لقوى الخير والنظام في مقابل أرواح شريرة تخل بالنظام وتسبب الفوضى.

ثم عند نقطة ما بين 1500-1000 قبل الميلاد، ادعى النبي ومفسر الرؤى زرادشت تلقيه الوحي من أهورا مازدا الذي عرف منه أن هذا الإله هو الواحد الأحد، خالق الكون، وحافظ النظام، وليس بحاجة لآلهة أخرين بجواره. وسوف تتحول نبوة زرادشت إلى الديانة الزرادشتية- أحد أقدم الأديان في العالم التي لا تزال تُمارس حتى يومنا هذا.

وفق هذا المعتقد، يتمثل الغرض الأساسي من حياة الإنسان في الاختيار بين اتباع أهورا مازدا والسير على طريق الحق والنظام (آشا) أو اتباع عدوه الأبدي، أنجرا مينيو (المعروف أيضاً باسم أهريمان) وقضاء حياته على طريق الأكاذيب والفوضى (دروج). وقد اعتُبر البشر خيرين بالفطرة ويمتلكون من الإرادة الحرة ما يكفي للاختيار بين هذين السراطين؛ وأي منهما يختاره المرء سينعكس على حياته ويحدد مصيره بعد الموت. وبعد موته يعبر الشخص جسر تشينفات حيث يلقى حسابه.

فيثاب هؤلاء الذين قد عاشوا حياة صالحة وفقاً لتعاليم أهورا مازدا بحياة الخلد في فردوس بيت الأغاني بينما يزج بهؤلاء الذين قد غرر بهم أنجرا مينيو في هوة بيت الأكاذيب (دروج-ديمانا) السحيقة حيث يعذبون بلا رحمة ويعيشون في الوحدة الأبدية رغم كثرة الأرواح المعذبة الأخرى من حولهم.

مع أن الباحثين يصفون الزرادشتية غالباً كديانة مزدوجة، إلا أن الأمر الواضح هو أن زرادشت قد وضع الأسس لعقيدة توحيدية ركزت على إله واحد مطلق القوة. وقد تجلت أوجه ازدواجية الدين في مرحلة تالية أثناء الحقبة المعروفة باسم الهرطقة الزورفانية التي جعلت من أهورا مازدا وأنجرا مينيو إلهين شقيقين، ابني ذورفان (الزمان) وأصبح الزمان نفسه القوة الأعظم التي من خلالها أتت كل الأشياء إلى الوجود لتغادره بعد انقضاء أجلها.

آمنت الزرادشتية كذلك بمسيح سيظهر في زمن ما في المستقبل (يعرف باسم ساوشيانت- الشخص الذي يجلب المنافع) ليفتدي البشرية في حدث يعرف باسم ’فراشوكيريتي‘ يعد بمثابة نهاية الزمان ويتحقق فيه جمع الشمل مع أهورا مازدا. سنلاحظ أن هذه المفاهيم ستؤثر في مراحل تالية على أديان مثل اليهودية والمسيحية والإسلام. كما سنلاحظ أن الاعتقاد في إله واحد، مطلق القوة ولا مثيل له من البشر، ربما قد أثر كذلك على الدين المصري خلال فترة العمارنة التي ألغى فيها الفرعون أخناتون (حكم من 1353 إلى 1336 قبل الميلاد) الطقوس والممارسات المصرية التقليديةَ واستبدلها بنظام توحيدي ركزَّ على الإله الواحد آتون.

الدين في مصر القديمة

كان الدين المصري القديم مشابهاً لنظيره العراقي في الاعتقاد بكون البشر عمال مشاركون مع الآلهة لحفظ النظام. وشكل مبدأ التناسق (المعروف للمصرين باسم ’ماعت‘) أهمية محورية في حياة المصريين (وفي الحياة الآخرة)، واتسم دينهم بحضوره الطاغي في جميع أوجه وجودهم. كان الدين المصري عبارة عن مزيج من السحر والأسطورة والعلم والطب والعلاج النفسي والروحاني وطب الأعشاب، فضلاً عن الفهم الحديث للدين بوصفه إيمان بقوة عليا وبالحياة بعد الموت. فالآلهة أصدقاء للبشر ولا تنشد سوى الخير لهم عبر تفضيلهم بأخصب الأراضي للعيش منها ودار خلد ينعموا فيها بعد انتهاء حيواتهم على الأرض.

هذه المنظومة العقائدية سوف تتواصل بتنويعات مختلفة طوال التاريخ المصري المديد، لن تقطعها سوى الإصلاحات الدينية التي استحدثها أخناتون إبان حكمه. وبعد وفاته سيسترد ولده ووريثه توت عنخ آمون (حكم حوالي 1336 - 1327 قبل الميلاد) الدين القديم إلى سابق منزلته ويعيد فتح المعابد وإحياء الطقوس والعادات القديمة.

Chain of Ankhs
سلسلة عنخ
Osama Shukir Muhammed Amin (Copyright)

جاءت أولى السجلات المكتوبة حول الممارسة الدينية المصرية من حوالي 3400 قبل الميلاد في فترة ما قبل الأسرات في مصر (حوالي 6000 - 3150 قبل الميلاد). سنجد أن آلهة من أمثال إيزيس وأوزوريس وبتاح وحتحور وأتوم وست ونفتيس وحورس كانت مقدسة ومعبودة بالفعل كقوى حية معترف بها منذ أزمنة بعيدة. وسنلاحظ أن أسطورة الخلق المصرية تتشابه مع بداية القصة العراقية القائلة بأنه في الأصل كان هناك دوامات من المياه الثقيلة الفوضوية؛ محيط بلا شطآن، بلا أعماق، وصامت حتى انبثقت فوق سطحه تلة من تراب (تعرف باسم ’بين-بين‘، التلة المنشئة التي يعتقد أن الأهرامات تجسيد لها) ووقف الإله العظيم آتوم (الشمس) فوق التلة ونادى، ليولد الإله شو (رب الهواء)، والإلهة تيفنوت (ربة الرطوبة)، والإله جيب (رب التربة)، والإلهة نوت (ربة السماء). وبجوار آتوم وقفت حيكا، تجسيد السحر، وكان السحر (حيكا) هو من أبدع الكون.

ولاحقاً خدم أوزوريس كرئيس لمحكمة أرواح الموتى في ’دار الحق‘.

ثم نفاجأ بأن آتوم قد اختار نوت عروساً له لكنها تقع في غرام جيب. ولغضبه من العاشقين، يفرق آتوم بينهما بقذف نوت عالياً عبر السماء بعيداً عن جيب على الأرض. لكن رغم افتراق العاشقين عن بعضهما البعض أثناء النهار، إلا أنهما تمكنا من الالتقاء معاً تحت ستر الليل وحملت نوت ثلاثة أبناء أوزوريس وست وحورس، وابنتين إيزيس ونفتيس.

أُعلن أوزوريس بصفته أكبر الأبناء ’ملكاً للأرض كلها‘ حين ولد وأعطيت له شقيقته إيزيس زوجة له. لكن الغيرة والكراهية تملكتا سيت ليقتل شقيقه ويخلفه على العرش. عندئذٍ تحنط إيزيس جثمان زوجها وبسحرها القوي تعيد بعث أوزوريس الذي يرجع من الموت لكي يجلب الحياة لشعب مصر. ولاحقاً خدم أوزوريس كرئيس لمحكمة أرواح الموتى في ’دار الحق‘ حيث صدرت أحكامه عن طريق وزن قلب الروح فوق الميزان ليقرر من يُمنح حياة الخلد.

كانت الحياة الآخرة المصرية أشبه بحقول القصب وكانت صورة مرآة للحياة على الأرض لتشمل حتى شجرة المرء المفضلة وجدوله وكلبه. فهؤلاء الذين أحبهم المرء أثناء حياته إما كانوا في انتظاره فور وصوله أو سيلحقون به. وقد نظر المصريون إلى الوجود الدنيوي كمجرد نزهة قصيرة في رحلة أبدية وأسرفوا في العناية بتسهيل الانتقال إلى المرحلة المقبلة لدرجة تشييد المقابر (الأهرامات) العملاقة والمعابد والنقوش الجنائزية (نصوص الأهرامات ونصوص التوابيت وكتاب الموتى المصري) لمساعدة الروح في الانتقال من هذا العالم الزائل إلى القادم الخالد.

وكانت الآلهة تعتني بالمرء بعد مماته تماماً كما فعلت أثناء حياته منذ بداية الزمان. فالإلهة قبهت تجلب الماء إلى الأرواح العطشى في أرض الموتى وتعتني ربات أخريات مثل سيركيت ونفتيس بالأرواح وتوفر لها الحماية خلال رحلتها صوب حقول القصب. وأدرك المصري القديم أن الآلهة قد نظمت الكون وكان لكل فرد مكانه في ذلك النظام منذ ميلاده وحتى بعد مماته.

الدين في الصين والهند

هذا المبدأ الخاص بالنظام يشكل أهمية بالغة أيضاً لأقدم دين في العالم لا زال يُمارس حتى اليوم: الهندوسية (المعروفة لأتباعها باسم ’ساناتان دهارما‘، أو ’النظام الأبدي‘، التي يُعتقد أنها تأسست باكراً بقدر 5500 قبل الميلاد لكن بالتأكيد بحلول حوالي 2300 قبل الميلاد). رغم اعتبارها غالباً كديانة تعديدية (تُؤمن بوجود آلهة متعددة)، تعتبر الهندوسية فعلياً ديانة تكبيرية (تُكَّبر إله واحد من بين آخرين دونه). فهناك إله واحد كبير في الهندوسية، براهما، وكل الأرباب الآخرين أوجهاً وانعكاسات له. وبالنظر إلى اتساع مفهوم البراهما لدرجة لا يستطيع العقل البشري الإحاطة بها، سنجده يقدم نفسه في العديد من النسخ المختلفة لنفسه والتي يعرفها الناس باسم الأرباب مثل فيشنو وشيفا والكثيرين غيرهما. جدير بالذكر أن نظام الاعتقاد الهندوسي يشمل 330 مليون إله وهؤلاء يتراوحون من أولئك المعترف بهم على المستوى الوطني (مثل كريشنا) إلى الأرباب المحلية الأقل حظاً.

Vishnu as Varaha, Udayagiri Caves
فيشنو على هيئة خنزير فارها، كهوف أوداياجيري
Jean-Pierre Dalbéra (CC BY)

تتمثل الرسالة الأساسية للهندوسية في وجود نظام للكون ولكل فرد مكانه المحدد داخل ذلك النظام. ويقع على كل شخص فوق الكوكب واجب (دهارما) هو وحده الذي يستطيع تأديته. فإذا أحسن المرء التصرف (كارما) في أداء الواجب، يُثاب بالاقتراب أكثر من الكائن الأعلى حتى يصبح واحداً مع الإله في النهاية؛ أما إذا أساء التصرف، فيُعاقب بإعادة تجسيده مرات عدة بقدر ما يلزم حتى يتعلم أخيراً كيف يعيش ويقترب أكثر إلى التوحد مع الروح الأعلى.

وقد شهد هذا المعتقد مزيداً من الانتشار على يد سيدهارتا غوتاما حين أصبح البوذا وأسس الدين المعروف باسم البوذية. غير أنه في البوذية لا يسعى المرء إلى التوحد مع إله بل مع الطبيعة الأسمى للمرء حين يترك ورائه ضلالات العالم التي تولد المعاناة وتحجب العقل بغمام الخوف من الخسارة والموت. وقد حققت البوذية درجة من الشعبية والذيوع سمحت لها بالسفر من الهند حتى الصين حيث حظيت بنجاح مماثل.

يعتقد أن الدين قد تطور في الصين القديمة باكراً بقدر حوالي 4500 قبل الميلاد كما يستدل من التصاميم على أواني السيراميك.

يعتقد أن الدين قد تطور في الصين القديمة باكراً بقدر حوالي 4500 قبل الميلاد كما يستدل من التصاميم على أواني السيراميك المكتشفة من موقع بقرية بانبو يعود إلى العصر الحجري الحديث. وربما قد تطور هذا البناء العقائدي المبكر من خليط من الأرواحية والأساطيرية حيث تتضمن تلك الصور حيوانات معروفة وتنانين الخنازير، أسلاف التنين الصيني الشهير.

ثم بحلول عصر أسرة شيا (2070-1600 قبل الميلاد)، أصبح هناك العديد من الآلهة المجسمة التي عُبدت بجانب إله رئيسي، شانجتي، الأكثر قوة من الجميع. واستمر هذا الاعتقاد، مع تعديلات، خلال فترة أسرة شانغ (1600-1046 قبل الميلاد) التي طورت ممارسة عبادة الأجداد.

اعتقد الناس أن شانجتي كان يضطلع بكم من المسؤوليات الكبرى لدرجة تشغله عن الاهتمام باحتياجاتهم. واعتُقد أن الشخص حين يموت يذهب للعيش مع الآلهة ويتحول إلى وسيط بين الناس وهؤلاء الآلهة. وقد تركت عبادة الأجداد بصمتها على نظامي الاعتقاد الصينيين العظيمين الكونفوشية والطاوية، وكليهما بُنِيا على نفس مبادئ عبادة الأجداد الأساسية في ممارساتهما. ثم بمرور الزمن تم استبدال شانجتي بمفهوم تيان (الجنة)، فردوس حيث سيقيم الموتى للأبد في سلام.

Chinese Oracle Bone
عظمة أوراكل صينية
BabelStone (CC BY-SA)

حتى ينتقل المرء من حياته الدنيوية إلى الجنة، كان يتعين عليه العبور من جسر النسيان فوق هوة سحيقة، وبعد أن يلقي نظرة أخيرة على حياته الفائتة، يشرب من كأس يطهره من كل الذكريات. وفوق الجسر، إما أن يُحكم بجدارة المرء لدخول الجنة- ومن ثم يمر- أو عدم جدارته- ومن ثم يهوي من فوق الجسر إلى الهاوية ليبتلعه الجحيم. هناك نسخ أخرى من نفس هذا السيناريو تدعي أن الروح تتجسد مجدداً بعد الشرب من الكأس. وفي كلا الحالتين كان ينتظر من الأحياء ألا يغفلوا عن تذكر موتاهم الذين قد عبروا فوق الجسر إلى الجانب الآخر وأن يحيوا ذكراهم.

الدين في أمريكا الوسطى

شكلت ذكرى الموتى والدور الذي لا يزالون يؤدونه في حيوات ذويهم الأحياء مكوناً مهماً في جميع الأديان القديمة ومن ضمنها منظومة المايا العقائدية. كانت الآلهة منغمسة في كل جانب من جوانب حياة المايا. وكما هو الحال مع ثقافات أخرى، كان هناك العديد من الآلهة المختلفة (أكثر من 250)، كل واحد منهم له منطقة نفوذ تخصه، لينظموا أحوال الطقس والحصاد، ويقرروا رفيق المرء، ويشرفوا على كل ميلاد، ويحضروا عند وفاة المرء.

كانت الحياة الآخرة المايانية مشابهة لنظيرتها العراقية القديمة في كونها مكان مظلم وموحش، لكن المايا تخيلوا حتى مصيراً أكثر سوءاً حيث يعيش المرء باستمرار تحت تهديد الاعتداء أو التضليل من قبل أرباب شيطانية تسكن العالم السفلي (المعروف باسم اكسيبالبا أو مينتال). وقد بلغ الخوف من الرحلة عبر اكسيبالبا حداً من القوة الثقافية الناجعة جعل من المايا الثقافة القديمة الوحيدة المعروف عنها تقديسها لإلهة الانتحار (إكستاب) لاعتقادهم في أن المنتحرين يجتازون اكسيبالبا ويذهبون مباشرة إلى الفردوس (كما هو الحال مع النساء اللاتي يمتن أثناء الوضع والرجال الذين يقتلون في المعركة). وقد آمن المايا بالطبيعة الدوَّارة للحياة، أن كل الأشياء التي تموت في الظاهر تتحول ببساطة إلى حياة أخرى، وأن حياة الإنسان مجرد وجه آخر للنمط المتكرر والمألوف حولهم في الطبيعة. وقد رأوا في الموت مجرد امتداد طبيعي للحياة وتخوفوا من الإمكانية غير الطبيعية ذاتها أن تعود أرواح الموتى لتطارد الأحياء.

كان ممكناً للشخص أن يعلق بالحياة لأي عدد من الأسباب (أبرزها مراسم الدفن غير الصحيحة)، ولذلك أقيمت الاحتفالات لإحياء ذكرى الموتى وتقديس أرواحهم. هذا الاعتقاد كان شائعاً لدى ثقافات أمريكا الوسطى بخلاف المايانية مثل الازتيك وتاراسكان، وبمرور الزمن تطور إلى العطلة المعروفة اليوم باسم ’عيد الموتى‘ (الديا دو لوس مورتوس)، الذي يحتفل فيه الناس بحيوات ذويهم ممن قضوا ويتذكرون أسمائهم.

Zapotec Priest Figure
مجسم لكاهن زابوتيك
James Blake Wiener (CC BY-NC-SA)

لم يقتصر الأمر على تكريم الأشخاص الذين قضوا وتخليد ذكراهم، بل شمل كذلك إلهاً بالغ الأهمية يشير إليه الباحثون باسم آه مون أو إله الذرة، وهو شخصية إلهية تموت وتبعث من جديد في صورة هون هوناهبو الذي قتلته شياطين اكسيبالبا وأعاده ابناه، البطلان التوأم، إلى الحياة ويخرج من العالم السفلي على هيئة الذرة. ويعتبر إله الذرة ’المقشر‘ أو إله الذرة ’المورق‘ من الصور الشائعة في فن الأيقونات المايانية، حيث يرسم عادة في صورة الشباب الدائم والوسامة الأبدية برأس ممدودة مثل كوز الذرة وشعر طويل ومتطاير مثل شعر الذرة. وقد أولاه المايا قدراً من الأهمية لدرجة أن الأمهات كن يربطن رؤوس أبنائهن الصغار من أجل تسطيح الجبهة وإطالة رؤوسهم لكي يشبهونه.

لقد بقي إله الذرة معبوداً مهماً للمايا حتى بعدما طغى عليه أعظم إله وأكثرهم شعبية جوكوماتز (المعروف أيضاً باسم كوكولكان وكيتزالكواتل) الذي لا يزال هرمه الكبير في تشيتشن إيتزا مقصداً لزيارة ملايين الأشخاص كل سنة حتى يومنا هذا. فأثناء الاعتدالين التوأمين من كل عام تلقي الشمس بظلها على درجات الهيكل الهرمي فيما يشبه ثعبان عظيم ينسل منحدراً من الأعلى للأسفل؛ ويعتقد أنه كوكولكان الكبير عائداً من السموات العلى إلى الأرض ليعمها ببركاته. وحتى يومنا هذا يحتشد الناس في تشيتشن إيتزا لمشاهدة هذا الحدث عند الاعتدالين ويتذكرون الماضي ويتمنون من أجل المستقبل.

الدين اليوناني والروماني

كانت طقوس إحياء ذكرى الموتى كفريضة دينية على المرء جزء لا يتجزأ من معتقدات اليونانيين كذلك. فمواظبة الأحياء على إحياء ذكرى موتاهم تجلب السعادة والسرور لروح الميت في الحياة الآخرة. واعتقد اليونانيون، مثل ثقافات أخرى ذكرناها، في أن ثمة آلهة متعددة تعتني غالباً بمشاغلهم وهمومهم البشرية لكنها تنغمس أيضاً، وبالوتيرة نفسها، في ملذاتها الخاصة.

كان أفلاطون دائم الانتقاد للمفهوم اليوناني للآلهة وزعم كريتياس أن البشر صنعوهم ببساطة بغرض السيطرة على بشر آخرين.

يلاحظ أن هذه الطبيعة النزوية للآلهة ربما قد أسهمت في تطور الفلسفة في اليونان نظراً لأن الفلسفة لا تتطور سوى في ثقافة يعجز فيها الدين عن إشباع الاحتياجات الروحانية للناس. لذلك كان أفلاطون دائم الانتقاد للمفهوم اليوناني للآلهة وزعم كريتياس أن البشر صنعوهم ببساطة بغرض السيطرة على بشر آخرين. وادعى زينوفانيس، كما أشرنا أعلاه، أن النظرة اليونانية كانت خاطئة بالكامل لأنه من المستحيل على البشر أن يتخيلوا الله.

كان أغلب اليونانيين، لأغراض تتعلق بتنظيم المجتمع وحسن أدائه، مطالبين بتقديس الآلهة وبجوارهم الأشخاص الذين قد قضوا وانتقلوا إلى مملكتهم. فمجرد أن يفارق الشخص الحياة الدنيا لا يعني أن يُنسى ذلك الشخص كليتاً مثلما لا ينسى المرؤ تكريم الآلهة غير المرئية له. وكما الحال مع ثقافات قديمة أخرى، كان الدين في اليونان متوغل بعمق في حياة المرء وروتينه اليومي.

The Parthenon
البارثينون
Andrew Griffith (CC BY-NC-SA)

لقد استشار اليونانيون آلهتهم حول أمور شتى تتراوح من شئون الدولة إلى القرارات الشخصية بخصوص الحب أو الزواج أو وظيفة المرء. ثمة قصة قديمة تحكي كيف ذهب الكاتب زينوفون (430 – حوالي 354 قبل الميلاد) إلى سقراط يسأله إن كان الفيلسوف يرى أن عليه الالتحاق بجيش سايروس الأصغر أثناء الحملة على بلاد فارس. لكن سقراط لم يجبه وأرسله بدلاً من ذلك ليطرح سؤاله على الإله في دلفي. وبدلاً من أن يطرح زينوفون سؤاله الأصلي، سأل الإله في دلفي عن أي الآلهة المتعددة الأفضل لخطب وده حتى يضمن مغامرة رابحة وعودة آمنة. وقد حصل على ما يبدو على الإجابة الصحيحة لأنه نجا من حملة سايروس الكارثية ولم يرجع إلى أثينا فحسب بل أنقذ الجزء الأكبر من الجيش.

لقد سار الدين في روما وفق نفس النمط السائد في اليونان. وفي أغلب الظن أن الدين الروماني قد بدأ كنوع من الأرواحية ثم تطور لدى اتصال الرومان بثقافات أخرى. فكان لليونانيين أكبر الأثر على الدين الروماني، وأغلب الآلهة الرومانية هي ببساطة آلهة يونانية بأسماء رومانية وصفات محرفة قليلاً.

كانت عبادة الآلهة في روما متداخلة بقوة مع شؤون الدولة واعتقد الرومان أن استقرار المجتمع مرهون بمدى التزام الناس بتعاليم الآلهة والمشاركة النشطة في طقوس عبادتهم وتقديسهم. ويعد طقس عذارى فستال من الأمثلة الشهيرة لهذا الاعتقاد في الاعتماد على هؤلاء النسوة للوفاء بما أخذنه على أنفسهن من نذور وتأدية واجباتهن بطريقة مسؤولة بغرض التقديس المتواصل للإلهة فستا وشكرها على كل ما تهبه للناس.

رغم استيراد الرومان لآلهتهم الرئيسية من اليونان، سنلاحظ أن الآلهة الأجنبية لم تعد موضع ترحيب في روما بمجرد أن توطد الدين الروماني وارتبط برفاهية الدولة. لذلك حين جُلبت عبادة الإلهة المصرية الشهيرة إيزيس إلى روما، سنلاحظ أن الإمبراطور أغسطس حَرَمَّ بناء أي معابد تكريماً لها أو تأدية مراسم عامة لعبادتها لشعوره بأن إيلاء هذا الاهتمام لإله أجنبي من شأنه أن يقوض سلطة الحكومة والمعتقدات الدينية القائمة. اعتقد الرومانيون أن الآلهة قد خلقت كل شيء كيفما شاءت وحفظت الكون بأفضل صورة ممكنة ومن ثم كان من واجب البشر أن يحمدوهم ويشكروهم على نعمهم.

Vestal Virgin by Canova
عذراء فستال لكانوفا
Getty Museum (CC BY-NC-SA)

لم يصدق ذلك على آلهة البانثيون الروماني ’الكبرى‘ فحسب إنما أيضاً على الأرواح التي تسكن البيت. كانت آلهة البيت (بيناتس) عبارة عن أرواح أرضية مهمتها حراسة غرفة المؤونة وحفظ بيت المرء آمناً ومطمئناً. لذلك ينتظر من المرء أن يبدي امتنانه وشكره لمجهوداتهم وأن يذكرهم كلما دخل البيت وخرج منه. كانت تماثيل آلهة البيت تؤخذ من خزانة الطعام وتوضع على المائدة أثناء تناول الوجبات لتكريمها، والأضاحي تترك بجانب الموقد لإمتاعها. فيثاب المرء بالصحة والسعادة الدائمة إذا لم يقصر في شكرها والتسبيح بحمدها، ويلحق به المرض والبؤس إذا أنكر النعمة وجحدها. وكان الاعتراف بأرواح المكان- البيت على وجه التحديد- أمراً شائعاً في أديان الثقافات الأخرى، وإن لم تتضمن بالضبط هذه الأنواع نفسها من الأرواح.

الموضوعات المشتركة في الدين القديم واستمراريتها

تشاركت أديان العالم القديم فيما بينها العديد من الأنماط نفسها حتى على الرغم من عدم اتصال هذه الثقافات أبداً ببعضها البعض. فقد تم التعرف على الأيقونية الروحانية المشتركة بين الأهرامات المايانية والمصرية منذ لفت العالمان جون لويد ستيفنز وفريدريك كاثروود انتباه العالم للمرة الأولى خلال القرن التاسع عشر إلى المايانية، وكانت الأبنية العقائدية الفعلية والقصص وأبرز الشخصيات في الأساطير القديمة متشابهة بشكل لافت من ثقافة إلى أخرى.

سنجد في كل ثقافة الأنماط نفسها أو شديدة الشبه بها، التي وجد فيها الناس ضالتهم وأعطت الحيوية لمعتقداتهم. وتشمل هذه الأنماط وجود آلهة متعددة لها مصلحة شخصية في حياة الناس أنفسهم؛ وكيان خارق للطبيعة يخلق الوجود عبر النطق به أو تسويته بيده أو بأمره كن فيكون؛ وكائنات خارقة للطبيعة أخرى تنبعث من الكيان الأول والأعظم؛ وتفسير خارق للطبيعة لخلق الأرض والكائنات البشرية؛ وعلاقة بين البشر المخلوقين وربهم الخالق تقتضي منهم عبادته والتضحية من أجله.

هناك تكرار للشخصية المعروفة باسم إله الموت والبعث، غالباً هو نفسه كيان قوي، الذي يُقتل أو يموت ثم يعود مجدداً إلى الحياة لخير شعبه.

هناك تكرار للشخصية المعروفة باسم إله الموت والبعث، غالباً هو نفسه كيان قوي، الذي يُقتل أو يموت ثم يعود مجدداً إلى الحياة لخير شعبه: أوزوريس في مصر، كريشنا في الهند، إله الذرة في أمريكا الوسطى، باخوس في روما، أتيس في اليونان، تموز في بلاد ما بين النهرين. وهناك غالباً حياة آخرة مماثلة للحياة الدنيا (مصر واليونان)، أو مناقضة لحياة الأرض (أمريكا الوسطى وبلاد ما بين النهرين)، أو خليط من الاثنين (الصين والهند).

تتكرر الرسالة الروحانية المدوية لهذه الأديان المختلفة في نصوص من فينيقيا (2700 قبل الميلاد) إلى سومر (2100 قبل الميلاد) إلى فلسطين (1440 قبل الميلاد) إلى اليونان (800 قبل الميلاد) إلى روما (حوالي 100 قبل الميلاد) وبقيت أصداؤها حية في معتقدات من جاءوا بعدهم. سنجد هذه الفكرة الجوهرية متمثلة في اليهودية في شخصية يوسف (سفر التكوين 37، 39-45) الذي باعه أخوته للرق في مصر، ثم يُلقى به في السجن عقب اتهامه بالتعدي على زوجة بوتيفار (العزيز)، ثم يُخلى سبيله ويُكرم في وقت لاحق. فرغم عدم موته فعلياً، لكنه بعد ’إعادة البعث‘ الرمزية تلك ينقذ البلاد من المجاعة، ويغيث الناس بنفس الطريقة تماماً مثل شخصيات متجددة البعث أخرى سابقة.

كانت الحكاية الفينيقية عن الإله الأعظم بعل وعودته إلى الحياة للنضال ضد الفوضى التي أحدثها الإله يام قديمة بالفعل في عام 2750 قبل الميلاد تاريخ تأسيس مدينة صور (بحسب هيرودوت) والقصة اليونانية حول إله الموت والبعث أدونيس (حوالي 600 قبل الميلاد) مشتقة من حكايات فينيقية أبكر نُسجت حول الإله تموز واستعارها السومريون (وفيما بعد الفارسيون) في الأسطورة الشهيرة ’نزول إنانا‘ إلى العالم السفلي.

Baal Statue
تمثال بعل
Jastrow (Public Domain)

لقد بلغ هذا الموضوع الخاص بالحياة بعد الموت وخروج الحي من الميت و، بالطبع، الحساب بعد الموت، أوج انتشاره بفضل الجهود التبشيرية المحمومة للقديس بول الذي نشر كلمة الرب الذي يموت ويبعث عيسى المسيح عبر فلسطين القديمة وآسيا الصغرى واليونان وروما (حوالي 42-62 م). كانت رؤية بول لشخصية المسيح، ابن الله المبارك الذي يموت ليفتدي البشرية، مستمدة من نظم عقائدية أبكر وشكلت وعي الكتبة الذين سيخطون فيما بعد الكتب التي ستؤلف الكتاب المقدس.

وقد صنعت الديانة المسيحية من الاعتقاد في الحياة الآخرة معياراً وأسست لمجموعة منظمة من الطقوس التي من خلالها يستطيع المؤمن الفوز بالحياة الأبدية. كان المسيحيون الأوائل بفعلهم ذلك يسيرون ببساطة على الدرب ذاته الذي سبقهم إليه السومريون والمصريون والفينيقيون واليونانيون والرومانيون الذين كانت لهم جميعهم طقوسهم المنظمة الخاصة لعبادة آلهتهم.

وعلى خطى المسيحيين، أسس المفسرون المسلمون للقرآن طقوسهم الخاصة لفهم الإله الواحد الذي، رغم اختلافه الشاسع من حيث الشكل عن نظرائه في المسيحية أو اليهودية أو أي من الأديان ’الوثنية‘ الأخرى، خدم نفس الغرض تماماً مثل الطقوس التي مورست ذات يوم في عبادة الآلهة المصرية قبل أكثر من 5.000 سنة: لمنح الكائنات البشرية شعوراً بأنهم ليسوا وحدهم في نضالاتهم ومكابداتهم وانتصاراتهم، وأن باستطاعتهم كبح جماح نوازعهم الدنيئة، وأن الموت ليس نهاية الوجود. لقد أعطت أديان العالم القديم الإجابات على تساؤلات الناس حول الحياة والموت، وهي في ذلك لا تختلف في شيء عن المعتقدات السائدة وموضع الممارسة في عالم اليوم.

نبذة عن المترجم

عبد المجيد الشهاوي
مترجم متفرغ يحب القراءة والكتابة

نبذة عن الكاتب

Joshua J. Mark
كاتب مستقل وأستاذ سابق بدوام جزئي في الفلسفة في كلية ماريست، نيويورك، عاش جوشوا ج. مارك في اليونان وألمانيا وسافر إلى مصر. قام بتدريس التاريخ والكتابة والأدب والفلسفة على المستوى الجامعي.

استشهد بهذا العمل

نمط APA

Mark, J. J. (2018, March 23). الدين في العالم القديم [Religion in the Ancient World]. (ع. ا. الشهاوي, المترجم). World History Encyclopedia. تم استرجاعها من https://www.worldhistory.org/trans/ar/1-131/

أسلوب شيكاغو

Mark, Joshua J.. "الدين في العالم القديم." تمت ترجمته بواسطة عبد المجيد الشهاوي. World History Encyclopedia. آخر تعديل March 23, 2018. https://www.worldhistory.org/trans/ar/1-131/.

أسلوب إم إل إيه

Mark, Joshua J.. "الدين في العالم القديم." تمت ترجمته بواسطة عبد المجيد الشهاوي. World History Encyclopedia. World History Encyclopedia, 23 Mar 2018. الويب. 30 Apr 2024.